لا شك، أن مبادرة مجموعة من طلاب جامعة بيرزيت للإحتجاج على زيارة القنصل البريطاني العام السيد "فينسنت فين"، وقيام نخبة من هذه المجموعة بطرده من الحرم الجامعي، لها قيمتها السياسية وأثرها المعنوي على الجمهور الفلسطيني. حيث جرت فعالية الإحتجاج ضمن أجواء من الاحتقان السياسي مع الإحتلال الإسرائيلي على خلفية المعاملة غير القانونية للمعتقلين السياسيين والتي تتنافى مع إتفاقية جنيف الرابعة، وتضامناً مع إضراب بعض الأسرى الفلسطينيين عن الطعام في هذه السجون. أضف إلي ذلك أجواء الاحتقان الداخلي الفلسطيني على خلفية التأخر المفرط لرواتب القطاع العام إلى جانب محدودية دور سلطة الحكم الذاتي والأحزاب السياسية الفلسطينية والفشل فتح أفق سياسي لتحرر الشعب الفلسطيني. غلفت الأجواء السياسية هذه قيام مجموعة من الطلبة في الجامعة بمبادرة الإحتجاج على زيارة القنصل العام البريطاني الذي لعبت بلاده دوراً تاريخياً في نكبة الشعب الفسطيني. لكن هل يمكن أن يكون لتنفيذ وإخراج الإحتجاج على زيارة القنصل بطريقة أخرى ذات صدى مردود سياسي أوسع؟ هذا هو الهدف من وارء هذه المقالة.
جامعة بيرزيت غنية بثقافة الإحتجاج والنشاط السياسي وهذا ما يمكّن جمهور الطلاب من القيام بمبادرات وأنشطة سياسية تعتمد على نخب وبطولات فردية. كما أن للحركة الطلابية في جامعة بيرزيت الفضل في بناء وتخريج قيادات وطنية لها أثرها البناء في النضال الوطني الفلسطيني. كما أثرت الحركة الطلابية بشكل عام وفي جامعة بيرزيت تحديداً، على توسع وامتداد العمل الجماهيري الفلسطيني الذي شهد أنضج و أفضل حالاته خلال الانتفاضة الأولى.
الإرث النضالي الذي أنتجته حالة النضال الجماهيري في الجامعات الفلسطينية أرسى منظومة أسس وأشكال وطرق للنضال. كما أصبحت هذه الطرق والأسس بمثابة المرجع ودليل لأي عمل قادم، بحيث يتوقع من أي ناشط سياسي في الجامعة إتقان وتشرب هذه الطرق حتى ينخرط ويبرز في أوساط الطلاب والحركة الطلابية. هذه الطرق مفيدة كقاعدة للبدء، ولكنها قد تمنع النشطاء من تطوير طرق جديدة. فقد يركن نشطاء الحركة الطلابية إلى الخبرة المكتسبة بفعل التعود بعيداً عن الإحتياجات المتجددة لكل عمل. كما قد تجعل العادات المكتسبة نشطاء الطلاب، أن يركزوا على القيام بالعمل -كحدث و تقنيات- و إهمال تقييم نتائجه السياسية ونتائج العمل على المستوى الفردي. عدم التقييم لا يمنع تطوير الأدوات النضالية بالمطلق، ولكنه بلا شك يعفي النشطاء من القيام بعملية محاسبة وتحمل المسؤوليات خاصة في حالات عدم نجاح الفعالية.
بالرغم أن أي عمل ونشاط يحدد بالظروف والملابسات خلال لحظة القيام بالفعالية، إلا أن هذه الملابسات قد تمكن النشطاء من القيام بالفعالية بأكثر من طريقة. فعناصر صناعة الفعالية بالإضافة للزمان والمكان هو الإنسان،أي النشطاء -كأفراد و كعناصر في فريق-، الذين يتجمعون لإخراج العمل. بالتالي فإن الطريقة التي ينفذ بها النشاط لا تعني أنها الفضلى والوحيدة، إذ يعتمد مستوى نجاح العمل على خبرة النشطاء وطرق تواصلهم مع بعضهم البعض. لذلك في اطار المساهمة في التفكير في تطوير ثقافة وأدوات الإحتجاج، أعيد إنتاج مشهد "طرد" القنصل البريطاني العام، بطريقة مختلفة بحيث يكون لها مردود أكبر مما حدث على أرض الواقع، حيث يتكون المشهد مما يلي:
بعد بدء المحاضرة؛ يبدأ مجموعة من الطلاب بـ"الاستهزاء" بسياسات بلاد القنصل عبر إطلاق بعض العبارات. كما قد يكون الاستهزاء والانتقاد للسياسات البريطانية من خلال عمل مجسم يدين الموقف الرسمي البريطاني. هذا مع ضرورة الابتعاد عن المساس بالقنصل على المستوى الشخصي.
- مقاطعة القنصل خلال الحديث خاصة عندما يذكر مغالطات تاريخية.
- إمطاره بوابل من الاسئلة عن موقف دولته وعدم أخلاقيته وتوازنه تجاه فلسطين.
- انسحابات منظمة من داخل القاعة مع إطلاق شعارات منددة بالموقف البريطاني.
- حمل يافطات إحتجاجية أمام القاعة تندد بالزيارة وموقف الحكومة البريطانية.
- ثم إبلاغه (ببيان، رسالة، موقف شفهي) أنه غير مرحب فيه ولا في موقف حكومته.
- عمل زفة إحتجاجية خلال مغادرة القنصل لقاعة المحاضرة و/أو حرم الجامعة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه ليس بالضرورة أن تنتهي الفعالية بطرد القنصل، خاصة إذا كان الهدف إيصال رسالة للحكومة والشعب البريطاني.
الفوائد المتوخاة من تنفيذ العمل بالطريقة المقترحة في هذه المقالة هي كالتالي:
١- إشراك عدد أكبر من الطلاب في النشاط، مما يرفع من مهارات الطلاب في الأنشطة و يزيد من فعاليتهم.
٢- تعبئة عدد أكبر من الطلاب من خلال إثارة الجدل والنقاش حول الزيارة وحول موقف الحكومة البريطانية.
٣- لكل شخص استعدادية متفاوته في المشاركة في الفعاليات السياسية. البعض يفضل الانسحاب من القاعة للإعراب عن موقفه السياسي وأخرين يفضلون رفع يافطة، والبعض يرفع صوته بالهتاف... و بالتالي يتحول النشاط السياسي من الاعتماد على مجموعة مندفعة إلى عمل منظم يشرك أكبر عدد من الطلاب بدون أن يقع العبء على النخبة؛ بناء على مبدأ: كل انسان حسب قدرته.
٤- هناك من يفضل العمل النخبوي لأنه يحتاج إلى الجرأة من جهة مما يعفي الغالبية من القيام بواجبها في الدفاع عن القضايا العامة. وهذا يجعل العبئ ثقيل على مجموعة ايثارية من الأفراد وقد يشجع ثقافة الإتكالية والاستفادة من نضالات الأخرين دون الاضطرار إلى دفع "ضريبة" النضال. كما يمكن أن يميل بعض الافراد إلى العمل الاستعراضي والجريء بغض النظر عن المردود السياسي، وانطباعات المحيط الطلابي في إطار لفت الأنظار.
إن ثقافة الإحتجاج تجعل النشطاء يركزون على العمل أكثر مما يركزون على مردوده والهدف السياسي والاجتماعي منه. وهذا يمنع من بناء استراتيجية تربط بين الأنشطة وتراكم الإنجازات. التركيز على العمل يقود إلى تغليب التكتيك على الإستراتيجية، مما يجعل النشاط عمل منفرد يندرج تحت ثقافة الإحتجاج، وبعوائد محدودة.
إن ما جرى يطرح للنقاش شكل العلاقة بين الطلاب وكتلهم النقابية من جهة وإدارة جامعة بيرزيت من جهة أخرى. وفي حال لم تبلغ وتنسق إدارة الجامعة مع مجلس الطلبة حول الزيارة بشكل مسبق فيحق للطلاب أن يسجلوا موقفاً على إدارة الجامعة مفاده "لسنا كطلاب أتباع في إقطاعيتكم". لذلك ينبغي إرساء معايير وإطار عمل يحدد ما هو مسموح به من حرية تعبير وتفكير من جهة وما يمس بالقانون والنظام الجامعي- الأكاديمي بعيد عن التسلط و سياسة الإملاء من جهة أخرى، دون المساس بهيبة الجامعة الفلسطينية. قد يتم إرساء تقليد مفاده؛ أن دعوة أي شخصية عامة لنشاط عام داخل الحرم الجامعي ينبغي أن يكون بالتنسيق مع مجلس إتحاد الطلبة والكتل الطلابية. بذلك يتم وضع آلية نظامية تضبط العلاقة بين إدارة الجامعة والطلاب بشكل مؤسسي وديمقراطي بعيداً عن المحسوبيات و المزاودات السياسية. كما أن التنسيق المسبق يعطي مجال للنقاش والحوار بين الطلبة وإدارة الجامعة، وبين الطلبة أنفسهم.
لقد تم طرد القنصل وانتهت الفعالية. كما قامت بعض وكالات الانباء بنقل الخبر بالنص والصورة، إلا أن ذلك لم يمنع قيام احد المسؤولين في الجامعة بانكار حدوث حادثة الطرد. في نفس الوقت قد يتفاخر بعض من شاركوا في الفعالية بالدور الذي قاموا به. و جرياً على العادة، قد تقوم إدارة الجامعة بإتخاذ إجراءات تجاه الطلبة المشاركين، وفيرد إتحاد مجلس الطلبة بسلسلة فعاليات إحتجاجية. وهكذا يتحول الموضوع من حادث طرد القنصل البريطاني العام، إلى منع إتخاذ إجراءات بحق الطلبة. ومن هنا اقترح مشهداً بديلاً عن ما تعودناه.
أن تدعو إدارة الجامعة الكتل الطلابية وجمهورالطلبة إلى اجتماع عام في الجامعة. يعرض كل طرف وجهة نظره مما جرى. كما يتم تطوير تفاهمات بين إدارة الجامعة والكتل الطلابية وجمهور الطلبة يحدد كيف يمكن للجامعة تنفيذ سياساتها الأكاديمية، وكيف يمكن للطلبة القيام بفعالياتهم، ومن ضمنها السياسية، دون الصدام مع إدارة الجامعة وقوانينها. يتم إنتاج هذه التفاهمات في سياق بناء أجواء حوار وتواصل، ولكن هل هذا ممكن في الحالة الفلسطينية الحالية؟
صحيح أن محاولة الاعتداء على القنصل البريطاني العام مثيرة وجذابة للصحافة، ولكن أيضا كان يمكن تنظيم النشاط لإحراز أكبر مردود إعلامي محلي وإقليمي من خلال توزيع بيان على الصحافة يعلن فيه موقف الكتل أو بعض الكتل الطلابية من الزيارة إضافة إلى إنهاء الزيارة بشكل مثير وجذاب للصحافة والجمهور. كما أن الرسالة السياسية الإعلامية هي الهدف من وراء النشاط، و ليس العمل في سبيل العمل وردة الفعل.